فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمفازة يجوز أن تكون مصدرًا ميميًا للفوز وهو الفلاح، مثل المتاب وقوله تعالى: {إن للمتقين مفازًا} [النبأ: 31]، ولحاق التاء به من قبيل لحاق هاء التأنيث بالمصدر في نحو قوله تعالى: {ليس لوقعتها كاذبة} [الواقعة: 2].
وتقدم ذلك في اسم سورة الفاتحة وعند قوله تعالى: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} في [آل عمران: 188]، والباء للملابسة، أي متلبسين بالفوز أو الباء للسببية، أي بسبب ما حصلوا عليه من الفوز.
ويجوز أن تكون المفازة اسمًا للفلاة، كما في قول لبيد:
لِوِرْدٍ تقلص الغيطان عنه ** يبذ مفازة الخِمس الكمال

سميت مفازة باسم مكان الفوز، أي النجاة وتأنيثها بتأويل البقعة، وسموها مفازة باعتبار أن من حل بها سلم من أن يلحقه عدوّه، كما قال العُديل:
ودون يد الحجاج من أن تنالني ** بساطٌ بأيدي أنا عجات عريض

وقول النابغة:
تدافع الناس عنا حين نركبها ** من المظالم تدعى أمّ صبار

وعلى هذا المعنى فالباء بمعنى في.
والمفازة: الجنة.
وإضافة مفازة إلى ضميرهم كناية عن شدة تلبسهم بالفوز حتى عُرف بهم كما يقال: فاز فوز فلان.
وقرأ الجمهور {بمفازتهم} بصيغة المفرد.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {بمَفَازاتهم} بصيغة الجمع وهي تجري على المعنيين في المفازة لأن المصدر قد يجمع باعتبار تعدد الصادر منه، أو باعتبار تعدد أنواعه، وكذلك تعدد أمكنة الفوز بتعدد الطوائف، وعلى هذا فإضافة المفازة إلى ضمير الذين اتقوا لتعريفها بهم، أي المفازة التي علمتم أنها لهم وهي الجنة، وقد عُلم ذلك من آيات وأخبار منها قوله تعالى: {إن للمقتين مفازًا حدائق وأعنابًا وكواعب أترابًا} [النبأ: 31، 33].
وجملة {لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون} مبيِّنة لجملة {وينجّي الله الذين اتقوا بمفازتهم} لأن نفي مسّ السوء هو إنجاؤهم ونفي الحزن عنهم نفي لأثر المس السوء.
وجيء في جانب نفي السوء بالجملة الفعلية لأن ذلك لنفي حالة أهل النار عنهم، وأهل النار في مسَ من السوء متجددٍ.
وجيء في نفي الحزن عنهم بالجملة الاسمية لأن أهل النار أيضًا في حزن وغم ثابت لازم لهم.
ومن لطيف التعبير هذا التفنن، فإن شأن الأسواء الجسدية تجدد آلامها وشأن الأكدار القلبية دوام الإحساس بها.
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} هذا استئناف ابتدائي تمهيد لقوله: {قُل أفغير الله تأمروني أعبُد} [الزمر: 64] في ذكر تمسك الرسول والرسللِ من قبله بالتوحيد ونبذِ الشرك والبراءةِ منه والتصلببِ في مقاومته والتصميممِ على قطع دابره، وجُعلت الجمل الثلاث من قوله: {الله خالق كل شيء} إلى قوله: {السموات والأرض} مقدمات تؤيد ما يجيء بعدها من قوله: {قُل أفغير الله تأمروني أعبُد} [الزمر: 64].
وقد اشتمل هذا الاستئناف ومعطوفاته على ثلاث جمل وجملة رابعة:
فالجملة الأولى: {الله خالق كل شيء} وهذه الجملة أَدْخَلت كل موجود في أنه مخلوق لله تعالى، فهو وليّ التصرف فيه لا يخرج من ذلك إلاّ ذاتُ الله تعالى وصفاته فهي مخصوصة من هذا العموم بدليل العقل وهو أنه خالق كل شيء فلو كان خالقَ نفسه أو صفاتِه لزم توقف الشيء على ما يتوقف هُو عليه وهذا ما يسمى بالدَّوْر في الحكمة، واستحالتُه عقلية، فخُص هذا العموم العقل.
والمقصود من هذا إثبات حقيقة، والزامُ الناس بتوحيده لأنه خالقهم، وليس في هذا قصد ثناء ولا تعاظم، والمقصود من هذه المقدمة تذكير الناس بأنهم جميعًا هم وما معهم عبيد لله وحده ليس لغيره منّة عليهم بالإِيجاد.
الجملة الثانية: {وهو على كل شيء وكيل} وجيء بها معطوفة لأن مدلولها مغاير لمدلول التي قبلها.
والوكيلُ المتصرف في شيء بدون تعقب ولما لم يعلّق بذلك الوصف شيءٌ علم أنه موكول إليه جِنس التصرف وحقيقتُه التي تعم جميع أفراد ما يتصرف فيه، فعم تصرفه أحوالَ جميع الموجودات من تقدير الأعمال والآجال والحركاتتِ، وهذه المقدمة تقتضي الاحتياج إليه بالإِمداد فهم بعد أن أوجدهم لم يستغنوا عنه لَمحةً مّا.
الجملة الثالثة: {لَهُ مقَاليدُ السمواتتِ والأرض} وجيء بها مفصولة لأنها تفيد بيان الجملة التي قبلها فإن الوكيل على شيء يكون هو المتصرف في العطاء والمنع.
والمقاليد: جمع إِقليد بكسر الهمزة وسكون القاف وهذا جمع على غير قياس، وإقليد قيل معرب عن الفارسية، وأصله كليد قيل من الرومية وأصله اقليدس وقيل كلمة يمانية وهو مما تقاربت فيه اللغات وهي كناية عن حفظ ذخائرها، فذخائر الأرض عناصرها ومعادنها وكيفيات أجوائها وبحارها، وذخائرُ السماوات سَير كواكبها وتصرفات أرواحها في عوالمها وعوالمنا وما لا يعلمه إلا الله تعالى.
ولما كانت تلك العناصر والقُوى شديدة النفع للناس وكان الناس في حاجة إليها شبهت بنفائس المخزونات فصحّ أيضًا أن تكون المقاليد استعارة مكنية، وهي أيضًا استعارة مصرحة للأمر الإِلهي التكويني والتسخيري الذي يُفيض به على الناس من تلك الذخائر المدَّخَرة كقوله تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} [الحجر: 21].
وهذه المقدمة تشير إلى أن الله هو معطي ما يشاء لمن يشاء من خلقه، ومن أعظم ذلك النبوءة وهديُ الشريعة فإن جهل المشركين بذلك هو الذي جرَّأَهم على أن أنكروا اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة دونهم، واختصاص أتباعه بالهُدى فقالوا: {أهؤلاء مَنَّ الله عليهم مِنْ بيننا} [الأنعام: 53] فهذه الجمل اشتملت على مقدمات ثلاث تقتضي كل واحدة منها دلالة على وحدانية الله بالخلق، ثم بالتصرف المطلق في مخلوقاته، ثم بوضع النظم والنواميس الفطرية والعقلية والتهذيبية في نظام العالم وفي نظام البشر.
وكل ذلك موجب توحيده وتصديقَ رسوله صلى الله عليه وسلم والاستمساك بعروته كما رَشد بذلك أهل الإِيمان.
فأما الجملة الرابعة وهي: {والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون} فتحتمل الاعتراض ولكن اقترانها بالواو بعد نظائرها يرجح أن تكون الواو فيها عاطفة وأنها مقصودة بالعطف على ما قبلها لأن فيها زيادة على مفاد الجملة قبلها، وتكون مقدمة رابعة للمقصود تجهيلًا للذين هم ضد المقصود من المقدمات فإن الاستدلال على الحق بإبطال ضده ضرب من ضروب الاستدلال.
لأن الاستدلال يعود إلى ترغيب وتنفير فإذا كان الذين كفروا بآيات الله خاسرين لا جرم كان الذين آمنوا بآيات الله هم الفائزين، فهذه الجملة تقابل جملة {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم} [الزمر: 61] المنتقل منها إلى هؤلاء الآيات، وهي مع ذلك مفيدة إنذارهم وتأفين آرائهم، لأن موقعها بعدَ دلائل الوحدانية وهي آيات دالّة على أن الله واحد يقتضي التنديدَ عليهم في عدم الاهتداء بها.
ووُصف {الذين كفروا بآيات الله} بأنهم الخاسرون لأنهم كفروا بآيات مَن له مقاليد خزائن الخير فعرَّضوا أنفسهم للحرمان مما في خزائنه وأعظمها خزائن خير الآخرة.
وآيات الله هي دلائل وجوده ووحدانيتِه التي أشارت إليها الجمل الثلاث السابقة.
والإِخبار عن الذين كفروا باسم الإِشارة للتنبيه عن أن المشار إليهم خسروا لأجْللِ ما وصفوا به قبلَ اسممِ الإِشارة وهو الكفر بآيات الله.
وتوسطُ ضمير الفصل لإِفادة حصر الخسارة فِيهم وهو قصر ادعائي بناء على عدم الاعتداد بخسارة غيرهم بالنسبة إلى خسارتهم فخسارتهم أعظم خسارة.
{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} هذا نتيجة المقدمات وهو المقصود بالإثبات، فالفاء في قوله: {أفغير الله} لتفريع الكلام المأمور الرسولُ صلى الله عليه وسلم بأن يقوله على الكلام الموحَى به إليه ليقرع به أسماعهم، فإن الحقائق المتقدمة موجهة إلى المشركين فبعْدَ تقررها عندهم وإنذارهم على مخالفة حالهم لما تقتضيه تلك الحقائقُ أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يوجِّه إليهم هذا الاستفهام الإِنكاري منوعًا على ما قبله إذ كانت أنفسهم قد خَسئت بما جَبَهَها من الكلام السابق تأييسها لهم من محاولة صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن التوحيد إلى عبادة غير الله.
وتوسط فعل {قُل} اعتراض بين التفريع والمفرَّع عنه لتصيير المقام لخطاب المشركين خاصة بعد أن كان مقام الكلام قبله مقامَ البيان لكل سامع من المؤمنين وغيرهم، فكان قوله: {قُلْ} هو الواسطة في جعل التفريع خاصًّا بهم، وهذا من بديع النظم ووفرة المعاني وهو حقيق بأن نسميه تلوين البساط.
و{غير الله} منصوب ب {أعْبُدُ} الذي هو متعلق ب {تأمُرُوني} على حذف حرف الجر مع أَنْ وحذف حرف الجر مع أَنْ كثير فقوله: {أعْبُد} على تقدير: أن أعبد فلما حذف الجار المتعلق ب {تأمروني} حذفت أن التي كانت متصلة به، كما حذفت في قول طرفه:
ألاَ أيهذا الزاجري احضر الوغى ** وأن أشهد اللذات هل أنت مُخلدي

وهذا استعمال جائز عند أبي الحسن الأخفش وابن مالك ونحاة الأندلس.
والجمهور يمنعونه ويجعلون قوله: {أعْبُدُ} هو المستفهم عنه، وفعلَ {تأمروني} اعتراضًا أو حالًا، والتقدير: أَأَعْبُدُ غير الله حال كونكم تأمرونني بذلك، ومنه قولهم في المثل: تَسْمَع بالمعيدي خيرٌ من أَن تراه، وفي الحديث «وتعينُ الرجل على دابته فتحمله عليها أو تحمِلُ عليها متاعَه صدقة».
وقرأ نافع {تَأمُرُوني} بنون واحدة خفيفة على حذف واحدة من النونين اللتين هما نون الرفع ونون الوقاية على الخلاف في المحذوفة وهو كثير في القرآن كقوله: {فبم تبشرون} [الحجر: 54]، وفتحَ نافع ياء المتكلم للتخفيف والتفادي من المدّ.
وقرأ الجمهور {تأمروني} بتشديد النون إدغامًا للنونين مع تسكين الياء للتخفيف.
وقرأ ابن كثير بتشديد النون وفتح الياء.
وقرأ ابن عامر {تأمرونني} بإظهار النونين وتسكين الياء.
ونداؤهم بوصف الجاهلين تقريع لهم بعد أن وصفوا بالخسران ليجمع لهم بين نقص الآخرة ونقص الدنيا.
والجهل هنا ضد العلم لأنهم جهلوا دلالة الدلائل المتقدمة فلم تفد منهم شيئًا فعمُوا عن دلائل الوحدانية التي هي بمرأى منهم ومسمع فجهلوا دلالتها على الصانع الواحد ولم يكفهم هذا الحظ من الجهل حتى تدلَّوا إلى حضيض عبادة أجسام من الصخّر الأصم.
وإطلاق الجهل على ضد العلم إطلاق عربي قديم قال النابغة:
يُخْبِرْكَ ذُو عِرْضِهم عني وعالمهم ** وليس جاهلُ شيء مثل مَن عَلِما

وقال السموأل أو عبدُ الملك بن عبد الرحيم الحارثي:
سَلِي إن جَهِلتتِ الناس عنا وعنهم ** فليسَ سواءً عالمٌ وجهول

وحُذف مفعول {الجاهلون} لتنزيل الفعل منزلة اللازم كأنَّ الجهل صار لهم سجية فلا يفقهون شيئًا فهم جاهلون بما أفادته الدلائل من الوحدانية التي لو علموها لما أشركوا ولمَا دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى اتباع شركهم، وهم جاهلون بمراتب النفوس الكاملة جهلًا أطمَعهم أن يصرفوا النبي صلى الله عليه وسلم عن التوحيد وأن يستزِّلوه بخزعبلاتهم وإطماعهم إياه أَن يعبدوا الله إن هو شاركهم في عبادة أصنامهم يحسبون الدِّين مساومة ومغابنة وتطفيفًا. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)} المقاليد: المفاتيح، قيل: لا واحد لها من لفظها، قاله التبريزي.
وقيل: واحدها مقليد، وقيل: مقلاد، ويقال: إقليد وأقاليد، والكلمة أصلها فارسية.
{أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كانت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يسمهم السوء ولاهم يحزنون الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السموات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون}.
روي أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق، أتاه إبليس فقال له: تمتع من الدنيا ثم تب، فأطاعه وأنفق ماله في الفجور.
فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان، فقال: {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} وذهب عمري في طاعة الشيطان، وأسخطت ربي، فندم حين لا ينفعه، فأنزل الله خبره.
{أن تقول} مفعول من أجله، فقدره ابن عطية: أي أنيبوا من أجل أن تقول.
وقال الزمخشري: كراهة أن تقول، والحوفي: أنذرناكم مخافة أن تقول، ونكر نفس لأنه أريد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر، أو أريد الكثير، كما قال الأعشى:
ورب نفيع لو هتفت لنحوه ** أتاني كريم ينقض الرأسى مغضبا

يريد أفواجًا من الكرام ينصرونه، لا كريمًا واحدًا؛ أو أريد نفس متميزة من الأنفس بالفجاج الشديد في الكفر، أو بعذاب عظيم.
قال هذه المحتملات الزمخشري، والظاهر الأول.
وقرأ الجمهور: {يا حسرتا} ، بإبدال ياء المتكلم ألفًا، وأبو جعفر: {يا حسرتا} بياء الإضافة، وعنه: {يا حسرتي} بالألف والياء جمعًا بين العوض والمعوض، والياء مفتوحة أو سانة.
وقال أبو الفضل الرازي في تصنيفه كتاب اللوامح: ولو ذهب إلى أنه أراد تثنية الحسرة مثل لبيك وسعديك، لأن معناهما لب بعد لب وسعد بعد سعد، فكذلك هذه الحسرة بعد حسرة، لكثرة حسراتهم يومئذ؛ أو أراد حسرتين فقط من قوت الجنة لدخول النار، لكان مذهبًا، ولكان ألف التثنية في تقدير الياء على لغة بلحرث بن كعب. انتهى.
وقرأ ابن كثير في الوقف: {يا حسرتاه} بهاء السكت.
قال سيبويه: ومعنى نداء الحسرة والويل: هذا وقتك فاحضري.
والجنب: الجانب، ومستحيل على الله الجارحة، فإضافة الجنب إليه مجاز.
قال مجاهد، والسدي: في أمر الله.